1/09/2013

25- الإسلام والتعددية


د. مجدي قرقر

 ترتبط قضية التعددية في الإسلام ارتباطا وثيقا بقضية الشورى ، فالشورى والديمقراطية تعنيان مشاورة الأمة أو سؤالها في بعض الأمور أو تخييرها بين بعض البدائل المختلفة لتختار من بينها ما تظن أنه يناسبها أو فيه الخير لمصلحتها.كما تعني الشورى أن هناك عدة أوجه أو رؤى في قضية ما، ومن هنا تلزم الشورى أو الديمقراطية حتى تفاضل الجماعة بين هذه الرؤى المختلفة وتختار من بينها ما تظنه صالحا لها. ووجود عدة أوجه للقضية أو المسألة هو ما نعني به قضية التعددية.. فهل يحتمل الإسلام وجود التعددية؟.والتعددية سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، والنصوص القرآنية تنص على أن الناس ليسوا فصيلا واحدا وأن الله سبحانه وتعالى خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا, { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } الحجرات (13) ،أي أن هناك تعددية خارج الإطار الإسلامي وأننا مأمورون بأن نتعامل مع الآخر خارج الإطار الإسلامي، فما بالنا بمن يختلف معنا داخل الإطار الإسلامي نفسه؟التعددية كما قلنا تعدد الرؤى في المسألة الواحدة.. ولكن هل أية مسألة يجوز فيها التعددية؟ .. الشرط الذي يضعه الإسلام هو ألا يكون هناك نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة حتى تجوز التعددية في تلك المسألة وألا تتعارض هذه الرؤى مع الثوابت الإسلامية أو مع النصوص القطعية أو ما اصطلح عليه فقهاء الإسلام بما هو معلوم من الدين بالضرورة.التعددية في الإسلام تعنى أن هناك اجتهادات متعددة أو اختلافات فقهية في مسألة واحدة، والاختلاف الفقهي قد ينشأ عند تنزيل الأحكام الإسلامية على الواقع المعاش ومن هنا يكون الاجتهاد.

 ***** 

الثابت والمتغير - القطعي والظني 

والاجتهاد الفقهي والرؤى الفقهية تتعدد باختلاف عناصر ثلاث متغيرة:

 1- اختلاف الزمان.

 2- اختلاف المكان.

 3- اختلاف الحال وهو ما أفضل تسميته بالخصوصية الحضارية للمجتمعات.

 الدنيا فيها الثابت وفيها المتغير، وحاجيات الإنسان أيضا فيها الثابت وفيها المتغير، ولأن الإسلام هو الدين الخاتم فإنه يلزم أن يكون صالحا لكل زمان وصالحا للوفاء بحاجيات الإنسان المتغيرة، ومن هنا فقد واجه الإسلام ثوابت الدنيا والبشرية بأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة استنباطا من نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة كما يواجه الإسلام المتغيرات بالاجتهاد فيما لم يرد فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة.والشكل التوضيحي المرفق يوضح الثابت والمتغير في الإسلام، فالقرآن قطعي الثبوت (ق ث) ولكن فيه ما هو قطعي الدلالة (ق د) وما هو ظني الدلالة (ظ د) - وهذا من رحمة الله - والسنة النبوية المشرفة فيها ما هو قطعي الثبوت (ق ث) وفيها ما هو ظني الثبوت (ظ ث)، وهي أيضا فيها ما هو قطعي الدلالة (ق د) وما هو ظني الدلالة (ظ د).وببعض التباديل والتوافيق فإن الجدول رقم (1) يوضح مناطق تقاطع القرآن الكريم والسنة النبوية ويوضح بالتالي المساحة القطعية وتلك الظنية.إذا حاولنا ترتيب عناصر الجدول السابق حسب القطعية والظنية واعتبرنا أن تردد لفظ القطعية في العنصر يعبر عن وزنه فإنه يمكن التعبير عن الجدول السابق طبقا للأوزان النسبية كما في الجدول رقم (2).والمساحة القطعية لا تحتمل الاجتهاد بينما المساحة الظنية هي بقية المساحة والتي يكون فيها الاجتهاد.والمساحة قطعية الثبوت والدلالة في القرآن والسنة لها الأولوية الأولى في الأحكام الفقهية والتي لا تحتمل اللبس ( الفرض – الواجب – الحلال – الحرام – المنهي عنه ) بينما المساحة الظنية فيها ( المستحب – المتشابه – المكروه )نخلص من ذلك أن هناك درجات مختلفة أقواها المساحة قطعية الثبوت قطعية الدلالة والتي لا تحتمل الاجتهاد وهي من حكمة الله سبحانه وتعالى حيث تواجه الشريعة بها ثوابت الدنيا التي لا تتغير بتغير الزمان ولا بتغير المكان ولا تختلف باختلاف الخصوصية الحضارية.والمساحة القطعية هي المساحة الأصغر بينما المساحة الظنية هي المساحة الأكبر وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده حيث يتفق الفقهاء في المساحة القطعية الثبوت والدلالة.بينما يرد الخلاف في المساحة الظنية والقاعدة الفقهية تقول (إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة).فمن رحمة الله أن توجد هذه المساحة الظنية الكبيرة والتي تحتمل الاجتهاد والخارجة عن المساحة قطعية الثبوت قطعية الدلالة.وكما أشرنا فإن الاجتهاد داخل تلك المساحة الظنية يتغير بتغير الزمان والمكان واختلاف الحال: 

(1) تغير الزمان:
 المساحة الظنية يمكن أن تختلف الأحكام الفقهية بها بمرور الوقت بتغير الواقع المعاش حيث أن الفتوى تنتج عن تنزيل الأحكام الإسلامية على الواقع المعاش فإذا تغير الواقع تغيرت الفتوى ومن هنا يكون الاجتهاد.وكما أشرنا فإن الله سبحانه وتعالى يعالج الثابت في الدنيا بالثابت من الأحكام ويعالج المتغير في هذه الدنيا بالمتغير من الأحكام، فحب المال وتملكه من الغرائز الثابتة ومن هنا حلل الله الكسب الحلال وحرم السرقة وقابلها بحكم قطعي وهو حد السرقة، وحب الجنس من الغرائز الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان وبالتالي فإنها تواجه بأحكام ثابتة في حدود الزنا، أما المسائل المتغيرة في الدنيا فيواجهها الفقه بأحكام متغيرة.

   (2) تغير المكان:الأمر المشتهر هو فقه الإمام الشافعي في مصر الذي اختلف عنه في العراق، فلقد تغيرت الفتاوى بتغير المكان, فعندما رحل الشافعي إلى مصر سنة 199 هـ - قبل وفاته بأربع سنوات - وبعد أن خالط المصريين وعرف ما عندهم من تقاليد و أعراف و عادات تخالف ما عند أهل العراق و الحجاز أعاد النظر في مذهبه القديم المدون بكتابه (الحجة) و جاء منه ببعض المسائل في مذهبه الجديد في كتاب (الأم) الذي أملاه على تلاميذه في مصر, فهو قد غير اجتهاده باختلاف المكان واختلاف الحال في نفس الوقت. 

 (3) اختلاف الحال أو الخصوصية الحضارية:واحتمال تغير الفتوى لا يتوقف على تغير الزمان والمكان فقط بل إن اختلاف الحال من شخص لآخر يمكن أن يغير الفتوى, فالحكم في حالة الضرير قد يختلف عنه في حالة المبصر في بعض الأحيان وكذلك الحكم في حالة المريض قد يختلف عن حالة السليم وهكذا, ومن هنا فإن فتاوى الفضائيات يشوبها نقص كبير حيث لا يمكن الاتصال الهاتفي من تبين حال المستفتي.وإذا كانت الفتوى قد تتغير من شخص لآخر حسب حال كل منهما فإن احتمال تغيرها من شعب لآخر وارد – من باب أولى - باختلاف الخصوصية الحضارية لكل من الشعبين, صحيح أن المساحة الثابتة في الإسلام في كل الدنيا ثابتة لكن خارج المساحة الثابتة هناك المساحة الظنية التي تأخذ في الاعتبار أحوال البلاد والشعوب والتراكم الحضاري عند كل منها والتفاعل مع الحضارات السابقة الذي كون شخصية هذه الشعوب, ولكن الشرط في كل هذا ألا يخالف الاجتهاد عن النصوص القطعية أو عما هو معلوم من الدين بالضرورة.يشير الدكتور يوسف القرضاوي في دراسة له بعنوان "الشريعة بين الثابت والمتغير" بموقع القرضاوي بتاريخ 29 إبريل 2007 إلى أن الدين نمط حياة.. يلتزم به الإنسان.. فهما وسلوكا وفق مراد الله.. والدين عقيدة وشريعة.. والعقيدة هي ما عقد في القلب.. فلا يكون هناك حاجة لمعاودة استعمال العقل بشأنه.. أما الشريعة فهي المنهج الرباني الذي يضبط علاقة الناس بالله وعلاقتهم بعضهم ببعض، هذا المنهج جاء به القرآن وجاءت به السنة النبوية.
شرح الفقهاء المنهج واستنبطوا فيما لا نص فيه فكوّنوا الفقه الإسلامي، فالشريعة هي وحي الله، أما الفقه فهو عمل العقل الإسلامي في فهم هذا الوحي والاستنباط منه لضبط وقائع الحياة وفق أمر الله تعالى ونهيه كما يفهمها العالِم المسلم، ولذلك قد يختلف الفقهاء بعضهم مع البعض
والفقه منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني، ومنه ما هو من الأصول ومنه ما هو من الفروع، منه ما هو من الكليات ومنه ما هو من الجزئيات،فداخل هذا الفقه توجد الشريعة الإسلامية.. فالشريعة هي الجزء الثابت الذي لا خلاف عليه، ويمثل مجموعة معينة من الأحكام القطعية.. وهذه الأحكام هي التي عليها مدار بقية الأحكام.. وما يجري من اجتهادات فرعية لا بد من أن تكون في إطار هذه الأصول الكلية.. بحيث لا تتصادم ولا تتناقض معها.. فهذا شأن الفقه مع الشريعة.وعندما نقول بأن الدين عقيدة وشريعة فإننا نعنى بالعقيدة أصول الإيمان.. الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر... إلى آخره، وهذه لا تغير فيها، حيث أن الله واحد وسيظل واحدا، الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، هذه أشياء ثابتة في آخرها جنة ونار، هذه لا تغير فيها، ولذلك الثبات أصل في العقيدة، أما الشريعة فتجمع بين الثبات والتطور أو الثبات والمرونة أو الثبات والتغير.
ويوضح الدكتور القرضاوي الثابت في الشريعة بما يلي: 

أولا: مقاصد الشريعة، و تهدف إلى تحقيق مقاصد معينة, مثل المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهو ما يطلق عليه الكليات الخمس، هذه مقاصد لا تختلف ولا تتغير بتغير الزمان والمكان, وتضبط القواعد الكلية أحكام الشريعة والاستنباط منها.
ثانيا: القواعد الشرعية, مثل "الأمور بمقاصدها، المشقة تجلب التيسير، لا ضرر ولا ضرار، الضرورات تبيح المحظورات، العادة محكمة", قضايا كثيرة اسمها القواعد الشرعية، هذه أيضا ثابتة لأنها مبنية على استقراء أحكام كثيرة حتى قُننت هكذا
ثالثا: الأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها، لا يدخلها التطور ولا التغير ولا التجديد، وهي التي تمثل الثوابت، ونقصد بها الثوابت الشرعية، إذ أن الصلوات الخمس والزكاة ركنان من أركان الإسلام، والزكاة تصرف في كذا وكذا.. وهناك الحج مرة في العمر، والزنا محرم، والربا محرم.. أحكام ثابتة لا تختلف باختلاف الزمان ولا المكان ولا بتغير العصر ولا تغير البيئة.
كما يوضح الدكتور القرضاوي المتغير ( المرن ) في الشريعة بما يلي:أولا: الفروع, معظم أحكام الشريعة فرعيات اختلفت فيها الأفهام وتنوعت في الاستنباط منها المدارس الفقهية المختلفة، اختلف هؤلاء وهذا الاختلاف من رحمة الله بالأمة؛ لأنه يعطيها فرصة للاختيار، فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لآخر، ويصلح لبلد ولا يصلح لآخر، ويصلح في حالة ولا يصلح في أخرى.ثانيا: منطقة العفو, هناك منطقة في الشريعة اسمها منطقة العفو.. وهي منطقة ليس فيها نصوص ملزمة، ليس فيها أوامر ولا نواهٍ تلزمنا بشيء، الله أرادها هكذا، فنستطيع أن نملأها بالقياس على المنصوص عليه، أو نملأها بمراعاة المصلحة المرسلة, بمراعاة الاستحسان, بمراعاة العرف, أدلة كثيرة فيما لا نص فيه، وهذا من رحمة الله عز وجل.
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

د. مجدي قرقر © 2008 | تصميم وتطوير حسن