9/08/2009

عالمية الإسلام بديلا عن العولمة


رؤية إسلامية في مواجهة رؤى الغرب
عالمية الإسلام بديلا عن العولمة
د0 مجدي قرقر*


إذا كان الشائع أن هناك وجهان لعملة واحدة فإن الغرب لديه العديد من الأوجه لنفس العملة 00 والعملة المقصودة ليست اليورو أو الفرانك أو الإسترليني أو حتى الدولار – سيد العملات كما يشيعون – بل إن العملة المقصودة هي هيمنة الغرب بوجه عام والولايات المتحدة بوجه خاص 00 والأوجه التي يطرحها الغرب لهذه العملة ظهرت مع بداية التسعينات وبعد حرب الخليج الثانية في رؤى فكرية وسياسية تكرس مصالح الغرب : صراع الحضارات ، نهاية التاريخ ، العولمة أو الكوكبة ، النظام العالمي الجديد 00 وفي مقابل هذه الرؤى يحسب الباحث أن الرؤية الإسلامية تقف في اتساق واضح لتدحض أفكار الغرب لصالح البشرية جمعاء على اختلاف جنسياتها ودياناتها ومللها : التدافع الحضاري ، تواصل التاريخ لا نهايته ، العالمية ، الإسلام كبديل 0
وتنطلق الدراسة من الفرضية السابقة في محاولة لإثباتها وهي أن كل الرؤى الغربية السابقة تسعى لتكريس هيمنة الغرب على دول الجنوب أو الشرق بشكل عام وعلى الدول الإسلامية بشكل خاص 00 وبإثبات هذه الفرضية يحاول الباحث بعدها تقديم الرؤية الإسلامية كبديل يحقق خير البشرية ويحقق قيم الإسلام - الحرية والعدل والمساواة – مركزا على عالمية الإسلام في مواجهة العولمة 00 ثم يختتم الباحث دراسته باستراتيجية للمواجهة في مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد والتي تستهدفها الرؤى الغربية بدرجة أولى 0

الغرب والإسلام !!
بعد سقوط الشيوعية أصبح الإسلام هو العدو الأول للغرب 00 يشير ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق في مقال له في مجلة الشئون الخارجية عام 1985 إلى أن روسيا وأمريكا يجب أن تعقدا تعاونا حاسما لضرب الصحوة الإسلامية الصاعدة 00 وفي كتابه " انتهزوا الفرصة " يقر نيكسون بأن الإسلام قوة هائلة وأن تزايد عدد سكانه والقوة المالية التي يتمتع بها تشكلان تحديا رئيسيا للغرب وأن الغرب سيضطر إلى تشكيل حلف جديد مع موسكو لمواجهة عالم إسلامي معاد ومعتد وأن الغرب ينبغي أن يستعد لمواجهة حاسمة مع الشرق الإسلامي الذي يشكل واحدا من أعظم التحديات السياسية الخارجية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين 0
وإبان رئاستها للحكومة البريطانية أعلنت مارجريت تاتشر صراحة أن الإسلام هو العدو الجديد للغرب بعد سقوط الشيوعية 00 وأشار البعض إلى أن الحاجة لإسرائيل لم تعد كبيرة إلا أن إسحاق شامير ورابين أعلنا عكس ذلك بأن الحاجة لإسرائيل قد زادت لأن إسرائيل هي التي يمكنها أن تتصدى للأصولية الإسلامية 00 ثم كانت الوثيقة التي كتبها جون ميجور رئيس الوزراء البريطاني – فيما بعد – لوزير خارجيته دوجلاس هيرد والتي ناشده فيها أن يأخذ موقفا متشددا داخل مجلس العموم البريطاني إزاء قضية البوسنة مشيرا إلى أنهم يجب ألا يسمحوا بأي حال من الأحوال أن يكون هناك دولة مسلمة في أوربا وأنهم يجب ألا يسمحوا بأن يتكرر ما حدث في أفغانستان على أرض البوسنة وألا يكون هناك مجاهدون مسلمون على أرض البوسنة كما كان الوضع في أفغانستان وألا يسمحوا بإرسال سلاح للمسلمين في البوسنة 00 ثم إن عليهم أن يطيلوا أمد المباحثات الصورية ( فانس – أوين ) حتى يتمكن الصرب من إتمام مهمتهم هناك 00 ونظن أن السيناريو الذي قام به الغرب وحلف الأطلنطي مؤخرا ضد شعب كوسوفا المسلم لا يختلف كثيرا عما حدث على أرض البوسنة 0
هذا هو العداء للإسلام الذي عبر عنه ساسة الغرب قولا وفعلا ومن أراد المزيد من حقد الغرب على الإسلام فليرجع لكتاب جلال العالم ( دمروا الإسلام 00 أبيدوا أهله ) 0

أوجه متعددة لعملة واحدة !!
هذا عن ساسة الغرب وقادته فماذا عن كتابه ومفكريه ؟! :
1 – صدام الحضارات : في مقال له بمجلة الهلال في نوفمبر 1993 أشار الأستاذ مصطفى نبيل رئيس التحرير إلي السياق التاريخي الذي كتب فيه صمويل هانتينجتون – رجل الأمن القومي الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة - مقاله حول " صدام الحضارات " وأشار إلى أن المقال جاء بعد حوار واسع في الغرب حول المستقبل وأنه فبعد انتهاء عصر القطبين وانتقال الحرب الباردة إلى سلام بارد أخذ يتخلق عالم جديد تحكمه موازين قوى جديدة 0
أشار صمويل هانتينجتون في مقاله إلى أن الصراع السابق كان صراعا بين أطراف غربية – أي داخل الحضارة الغربية ذاتها – واليوم وبعد انتهاء الصراعات وسيطرة الديمقراطية على الحضارة الغربية حان وقت سيطرة هذه الحضارة على العالم 0
ويشير هانتينجتون إلى أنه بعد قيام الثورة الروسية بدأ صراع الأيدلوجيات بين الشيوعية والفاشية والنازية ، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل التسعينات قامت الحرب الباردة بين الشيوعية والديموقراطية ، وسيواجه الغرب خلال محاولاته لنشر أفكاره عن الديموقراطية وحقوق الإنسان وخلال سعيه إلى الإبقاء على تفوقه العسكري والمحافظة على مصالحه الاقتصادية،سيواجه بردود فعل من الحضارات المختلفة فإما الاستسلام وإما الصدام !! 0
وستبدأ هذه الصدامات عند خطوط التماس وفي مناطق التداخل بين الحضارات ، وكلما حددت الشعوب هويتها على أسس دينية وثقافية وعرقية زاد لدى هذه الشعوب الشعور بالتناقض بينها وبين غيرها وتنتقل الخلافات الحضارية إلى اختلافات حول الأمور السياسية ويحدث الصدام مع تلك الحضارات ( صراع حضاري ) بحكم خلفياتها التاريخية وعداوتها القديمة وأهدافها المتضاربة ، وحدد هانتينجتون مناطق التداخل الحضاري بين الغرب والإسلام وبين الغرب والكونفوشيوسية 0
والغريب أن يأتي مقال " صدام الحضارات " من أحد أساتذة العلوم السياسية والذي كانت إضافته العلمية الأساسية هو " القياس الرياضي " لما هو ملموس في السياسة والعلاقات الدولية 0
2 - نهاية التاريخ : أكد فرانسيس فوكوياما الياباني الأصل الأمريكي الجنسية في كتابه " نهاية التاريخ " على انتصار الغرب وتربع الليبرالية والسوق على عرش العالم ، ونهاية الصراع التاريخي الطويل لصالح القيم الغربية ، وخلاصة فكرته أنه بعد انهيار الأيديولوجية المنافسة وانهيار الاتحاد السوفيتي ، لم يعد هناك أمام العالم سوى أن يأخذ بأيديولوجية الغرب التي غدت وحدها قائمة في الميدان وأن فرص ظهور آية أيديولوجيات أخرى تتجاسر على تقديم بديل للغرب مصيرها الزوال وأن أي محاولة للمقاومة ما هي إلا جهد يائس للوقوف أمام التاريخ ، ويلاحظ هنا أنه يرى الصراع صراعا أيديولوجيا وليس حضاريا 0
3 – النظام العالمي الجديد : بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد حرب الخليج الثانية ومشاركة ثلاثين دولة للولايات المتحدة في ضرب العراق وتكريس التواجد الأمريكي في الخليج الأمريكي – العربي سابقا – بشر الرئيس الأمريكي بما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يكرس الآلة العسكرية الغربية الضخمة لتأديب الخارجين هيمنة الولايات المتحدة واستخدام التكنولوجيا العسكرية المبرمجة في أسلوب الحرب عن بعد - إذا جاز التعبير – دون أن يدفعوا بجنودهم في أتون الحرب بشكل مباشر ثم توظيف الأمم المتحدة لخدمة هذا النظام الجديد حتى أضحت الأمم المتحدة الولاية الحادية والخمسين من الولايات الأمريكية !! 00 أي أن الصراع هنا صراعا عسكريا وسياسيا في آن واحد 0
4 – العولمة : المفهوم الغربي للعولمة مفهوم اقتصادي استعماري بالدرجة الأولي (تحول العالم إلى منظومة من العلاقات الاقتصادية المتشابكة حيث تتبادل كل أجزاء العالم الاعتماد علي بعضها البعض فيما يتعلق بكل من : الخامات والسلع المصنعة والأسواق ورؤوس الأموال والعمالة والخبرة الفنية) 0
ثم إن العولمة في ظاهرها النظري البراق تتعامل مع العالم الإنساني الفسيح علي الكرة الأرضية وكأنه قرية واحدة غير مترامية الأطراف ، الأحداث بها متصلة والحقائق مترابطة ، والإنسانية فيها متداخلة وكأنها واحدة ، والقيم الإنسانية والاقتصادية والسياسية متسامية، لا انفصال بين بني الإنسان ولا انفصام بينهم ، قربت المسافات واختزلت الأزمنة ، وكأنه تحقيق للوجود الإنساني في اللامكان واللازمان 0
ومن هنا فإن العولمة تجسيد للصراع على المستويين الاقتصادي والثقافي بالدرجة الأولى إضافة إلى البعد السياسي الذي يأتي في مرتبة تالية 0
ومما سبق يمكن أن نخلص إلى النتائج التالية :
1. إن هذه الرؤى الفكرية والسياسية التي يطرحها الغرب ظهرت متواكبة في توقيت واحد مع بداية التسعينات وبعد حرب الخليج الثانية 0
2. إن كل الرؤى السابقة تسعى لتكريس هيمنة الغرب على دول الجنوب أو الشرق بشكل عام وعلى الدول الإسلامية بشكل خاص وإن اختلفت الأولويات في كل منها عن الأخرى 0
ويضيف مصطفى نبيل عدة ملاحظات أخرى على أطروحة صدام الحضارات يمكن أن نعممها على أطروحات الغرب الأخرى :
3. إن الغرب يحل أزمته بتصديرها لغيره !! فيبدو وكأن الغرب الذي حشد قواه أمام خطر الشيوعية ، يتعرض بعد زوال هذا الخطر إلى فقدان الدافع من أجل تعبئة قواه ، فأصبح في حاجة إلى خطر وهمي جديد ، ولم يجد سوى الحضارات الأخرى وعلى رأسها الإسلام والكونفوشيوسية 0
4. إن من يقرأ التاريخ يسعى إلى معرفة دروسه وعبره ولا يقرؤه لكي يكرر مآسيه ويشعل أحقاده وينشغل بالثأر لأحداثه فهذه النظرة تجعل المستقبل أسيرا لأكثر صفحات التاريخ ظلما وظلاما ويأتي مقال هانتينجتون ويكشف أن رواسب التاريخ باقية وكامنة في الوجدان الغربي ولو حتى في اللاشعور وكأنه ينفخ في نار حروب قديمة ويحرض الغرب على شعوب العالم وحضاراته ويزكي نار حرب صليبية جديدة 0
5. إن هناك التباس متعمد في رؤى الغرب بين كل من التغريب والتحديث ، فالتحديث وملاحقة العصر والتخطيط للمستقبل والتعامل مع المتغيرات مطلب لكل الشعوب ، أما التغريب فمسألة أخرى فمن حق أي شعب أن يحافظ على خصوصيته وأن يعتز بخبرته التاريخية 0
تحيز الغرب ضد مفكريه المخالفين لمصالحه !
وحتى في القضايا التي لها طابع فكري فإن ما يحكم الغرب هو مصلحته ومن هنا يتحيز لبعض مفكريه على حساب البعض الآخر 00 ففي الوقت الذي طنطنت فيه الآلة الإعلامية الغربية لرؤى هانتنجتون وفوكوياما فإنها أهملت أعمال بول كنيدي وبريجنسكي والتي جاءت أكثر حصافة إذ أشار كنيدي في كتابه " قيام وسقوط القوى العظمى " إلى احتمال تخلي القوة الأمريكية عن تفردها بعد سقوط عصر القطبية الثنائية قياسا على ما أعتبر لأكثر من ثلاثة قرون نظاما عالميا يتمركز حول أوربا ثم انتقل خارجها بعد دخول قوى قارية كبرى هي الولايات المتحدة وروسيا 0
يتحدث كنيدي عن التحديات التي تواجه الهيمنة الأمريكية ويضع الصين على رأس القوى المرشحين كقوة صاعدة ولا يستبعد قيام أحد صور التقارب بينها وبين اليابان ، ويستبعد أن تمثل أوربا الموحدة تحديا استراتيجيا حقيقيا للقوة الأمريكية ، وإن كانت تمثل تحديا تجاريا 0
ويرى كنيدي أن قوة الولايات المتحدة العالمية تتراجع نسبيا ويطالب بأن تتجنب التوسع الإمبريالي الذي يفوق إمكانياتها وقدرتها الفعلية ، وعليها أن تصل إلي حل للمعضلة المتمثلة في أن مجموع المصالح و الالتزامات الأمريكية القائمة أكبر بكثير من قوتها و قدرتها علي الدفاع عنها جميعا في آن واحد ، فلم يتح لأي تجمع عبر التاريخ أن يظل متقدما علي غيره ، و لا يعني هذا أنه محكوم علي المجتمع الأمريكي بالانهيار، مثلما حدث مع قوي عظمي سابقة، لأنها تملك تجنب هذا المصير، لإدراكها ما يجري في العالم و قدرتها علي التعامل معه 0
ويتخوف بريجنسكي - مستشار الأمن القومي أيام الرئيس الأمريكي كارتر - في كتابـه " خارج نطاق السيطرة " علي مستقبل أمريكا و الغرب ويري أن الأزمة المقبلة علي أعتاب القرن الحادي والعشرين هي أزمة الديمقراطية الغربية ذاتها التي يتهددها خطر " كل شئ مباح " داخل المجتمع الأمريكي ، الذي يسعى فيه الجميع إلى تحقيق ما يريدون دون اعتبار لمصالح المجتمع أو للفارق بين الخير و الشر، و غياب أي رادع ديني أو أخلاقي ، ويؤكد أن أمريكا رغم تربعها علي عرش العالم بلا منازع، فإن التحدي الذي يواجهها يأتي من داخلها ، من الثقافة الأمريكية التي تفسد البلاد ، وتعمل علي إشاعة الفوضى بها، وجذب العالم الخارجي إليها وإفساده !! 0

نشأة العولمة
فكرة العولمة في جوهرها فكرة قديمه إلا أنها تكتسب الآن صياغات شديدة التعقيد يمكن من خلالها خداع الكثيرين فالتطورات العلمية والثقافية والإعلامية المختلفة أكسبتها قدرات أكبر في الخداع والمراوغة 0
فالعولمة إذن اصطلاح جديد لمفهوم قديم ، فقد حدث علي مر تاريخ البشرية الدعوة إلى الوحدة والتي انطلقت من مصر علي يد ملكها الفيلسوف إخناتون ، حيث دعا إلى دولة واحدة يسودها قانون واحد وتعبد الإله الواحد ويحكمها حاكم واحد 00 ولم يكن ما فعله الاسكندر الأكبر بعيدا عن محاولة تطبيق هذه الدعوة فقد سعي عبر انتصاراته العسكرية علي معظم الدول الموجودة آنذاك إلى " أغرقة " العالم وصهر الحضارتين اليونانية والشرقية في قالب واحد هو بالطبع القالب اليوناني 0
ويرجع البعض ظهور العولمة إلى فكرة الدولة العالمية التي سادت في عصر الإمبراطورية الرومانية والفارسية 00 ثم جاء الإسلام بدعوته العالمية التي لا تفاضل بين البشر إلا بالتقوى والتي تدعو إلي قيمة العدل والمساواة والحرية والإخاء بين الناس فحقق دولته العالمية في قرن من الزمان والتي امتدت من الصين شرقا إلي الأندلس غربا 00 ثم سعي الاستعمار بدوله المختلفة إلي تحقيق الدولة العالمية التي تقوم علي استنزاف الدول المستعمرة لصالح المستعمر 00 ولم تدم الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس أكثر من قرن من الزمان إلا وقد زالت نتيجة لغضب الشعوب التي ثارت ضد عنصرية الغرب وظلمه واضطهاده واستنزافه لخيراتها 00 ولقد حاولت الماركسية من منظور المادية التاريخية والمادية الجدلية أن تقيم حكومة عالمية لكن محاولاتها باءت بالفشل وانتهت إلي انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي 0
خلاصة القول أن مصطلح العولمة ظهر مع بداية التسعينات إلا انه لم ينتشر ولم يكتسب دلالة استراتيجية وثقافية إلا بعد سقوط الشيوعية وظهور ما يسمي بالنظام العالمي الجديد 00 من هنا فطبقا لمفهوم الغرب أو رؤيته للعولمة فهي أداة من أدوات بالنظام العالمي الجديد
فالغرب الآن يعيش نشوة ما يظنه بالانتصار وهذا أوضح ما يكون في رؤية فرانسيس فوكوياما في كتابة المشتهر (1992) "نهاية التاريخ" والذي تحدث فيه عن الانتصار الحاسم والنهائي للنظام الرأسمالي أو السوق الحر وانتصار قرينة السياسي بالتالي النظام الليبرالي وتصور فوكوياما أن هذا هو الاختيار النهائي للإنسانية في تنظيم المجتمعات 0

مفهوم العولمة 00 تداعيات النشأة وأسبابها
يشير الدكتور محمد عمارة إلى أن المودودي عندما تحدث عن النظريات التي تقوم عليها الحضارة الغربية فإنه حددها في : فلسفة هيجل في التاريخ – نظرية دارون في الأحياء – الصراع الطبقي عند ماركس 00 ويشير المودودي إلى أن نظرية هيجل في فلسفة التاريخ تذهب إلي أن العصر الجديد ينسخ العصر القديم 00 ليس هناك ثوابت (عملية نسخ ) 00 عند دارون القوي ينسخ الضعيف ويزيله 00عند ماركس الطبقة الوليدة تنسخ الطبقات السابقة 00 إذا المحور في الحضارة الغربية هو الموقف الصراعي 00 طرف يصرع الآخر وينهيه ويزيله وينفرد بالميدان 0
يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى أن التعميم جزء من منظومة فكر الاستنارة 00 ففكر الاستنارة كان يدور في إطار الإنسان الأممي أو العالمي وجوهر فكر الاستنارة هو أن يتم القضاء علي الخصوصيات تدريجيا أي أن نصل إلي نوع من الإنسانية العامة وهذا متجذر في الفكر المادي لأن الفكر المادي بطبيعته فكر تعميمي 00 فكر يتجه نحو القانون العام 00القانون الذي لا يميز بين ما هو إنساني وما هو غير أنساني وفي منتصف الستينات حدث انتقال كبير في هذه الحضارة 00 وجوهر هذا الانتقال هو ما أسميه الانتقال من مرحلة الصلابة إلي مرحلة السيولة 00 بمعني أن الحضارة الغربية التي كانت واثقة من نفسها تماما قد فقدت هذه الثقة وبعد أن كانت متمركزة حول نفسها فقدت هذا التمركز حول الذات وهذا يعود لأسباب عديدة أوجزها الدكتور المسيري فيما يلي :
علي المستوي العسكري أدت مرحلة الحرب الباردة إلي إرهاق الكتلتين العظميين لأن سباق التسلح ثبت أنه سباق مكلف للغاية للكتلتين حتى أصبح من العسير عليهما الاستمرار في ذلك فقد أدي في النهاية إلي إجهاد الاتحاد السوفيتي كما أدى إلى عدم قدرة الولايات المتحدة علي مواكبة ذلك فالبلايين تنفق كل عام على أسلحة لا تستخدم 00 من ناحية أخري فقد لاحظت – ولاحظ معي آخرون – أن المنظومة العلمانية تتوجه نحو اللذة ومن ثم أصبح الإنسان الغربي منغلق علي ذاته يبحث عن متعة دائمة ولا يفكر ومن ثم أصبحت القوات العسكرية الغربية غير قادرة علي الدخول في حروب يلتحم فيها الجنود 00 ولعل حرب الخليج كانت تأكيدا كبيرا لذلك 00 فهم يرسلون مئات الألوف من الجنود ثم يؤكدون لهم أنهم لن يحاربوا وتصبح المشاكل الأساسية هي العمل علي عدم إدخال جنودهم أنفسهم في الحروب والاستعاضة عنهم بالتكنولوجيا العسكرية 00 وكذلك فإن ظهور دول نووية خارج المعسكر الغربي مثل الصين والهند وباكستان جعل الحرب ذات مخاطر غير محمودة وكذلك ظهور وسائل دمار رخيصة مثل الصواريخ ذات الرؤوس الميكروبية وهكذا0
00 لكل هذا فإن الغرب قد قرر عدم المواجهة واللجوء إلي الإغواء بدلا من المواجهة وجوهر هذا الإغواء أن يخبر الناس أننا سواسية وأن هناك نظام عالمي جديد وأن هناك عدل وأن هناك حقوق إنسان وأن العالم قرية واحدة وأنه تسوده مجوعة من القيم العالمية وهذا في الحقيقة ليس أكثر من أكاذيب مثيرة للسخرية لأنه من غير المعروف علي سبيل المثال ما هي إسهامات إفريقيا في قيم ذلك النظام العالمي الجديد وفي العولمة 00 فالعولمة في جوهرها تعني بالفعل عبادة السهل علي حساب الحقيقي علي حساب الأخلاقي ونلحظ هنا أنه بدلا من الصراع والبقاء للأقوى أصبح الأمر الآن البقاء للأسهل فهي منظومة مبنية علي الإغواء 0
ويلخص الدكتور حامد طاهر العوامل المؤدية إلى العولمة فيما يلي :
• علي المستوي السياسي حينما انهار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات انفردت الولايات المتحدة بالزعامة، التي ارتبطت بما أصبح يطلق عليه النظام العالمي الجديد.
• علي المستوي الاقتصادي اتجهت الشركات الكبرى إلى الاندماج ، وتكوين كيانات اقتصادية عالمية ( International ) بل وقارية ( Intercontinental) وفي نفس الوقت، لم تستطع الدول الصغرى، وحتى الكبرى أن تدخل حلبة المنافسة الاقتصادية بصورة منفردة فبدأت تتجمع في كيانات ضخمة، كما يشاهد حاليا في السوق الأوربية المشتركة 0
• علي المستوي الثقافي شهد العالم خلال القرن العشرين عدة ثورات متلاحقة في مجال الاتصال والإعلام بدءا من اختراع التليفون والراديو والترانزيستور ثم التلفاز والكمبيوتر والتليفون المحمول وأخيرا شبكة الإنترنت التي أصبحت بمثابة مائدة ثقافية مفتوحة لكل إنسان في العالم. وقد كان لكل واحدة من هذه الثورات أثرها الواضح علي تدفق المعلومات وبالتالي علي ثقافة الأفراد والمجتمعات.
ويفهم البعض العولمة على أنها إعادة تشكيل العالم وصياغته اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وعسكريا ليحقق للقوة المنتصرة المنفردة بزعامة العالم - بعد انكسار الاتحاد السوفيتي - حقوق هذه الزعامة كما تراها هي وكما تريدها ، أي أن كلمة " العولمة " ترادف كلمة " الهيمنة " في المعجم السياسي للنظام العالمي الجديد 0
ويصيغ البعض مفهومها بأنها إعادة تشكيل النظام الدولي الراهن وفق رؤية القطب الأوحد علي الساحة الدولية ووفق أنساقه المذهبية الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية بغرض تحقيق هيمنة هذه الرؤى والإنسان فكريا وواقعيا علي المجتمع الدولي وعلي كل الدول والشعوب ، مستغلة في ذلك كل ما هو متاح من وسائل ثورة الاتصال الهائلة 0

آليات العولمة
للعولمة آلياتها المتوحشة مثل : اتفاقية الجات - منظمة التجارة العالمية - الأدوار الجديدة لصندوق النقد والبنك الدولي - الشركات العملاقة العابرة للقارات - احتكار العلم والتكنولوجيا - تهميش الأمم لتصبح (خيال مآتة) حتى تتآكل ذاتيا - قيام حلف شمال الأطلنطـي ( NATO ) بحسم المشاكل لصالح الغرب في أي مكان في العالم وفي الشرق الأوسط خصوصا كما ورد في ( تقرير هارفارد الصادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ) ومن آلياتها ثقافة السماوات المفتوحة – الطريق الدولي السريع للمعلومات وما يحمله من تدفق معلوماتي وفكري في اتجاه واحد لتطويع إرادة الناس وتشكيل عقولهم 0
تشير منظمة جالوب - أكبر المؤسسات شيوعا لاستطلاع الرأي العام - بأن اتفاق خمسة بلايين دولار من اجل إنتاج كمية من الدبابات والمدافع والبوارج لن تكفل لنا درجة التفوق علي الشيوعية التي يكفلها إنفاق المبلغ نفسه علي الحرب الأيديولوجية

بين العالمية والعولمة
يؤكد القرآن الكريم والسنة النبوية المكرمة عالمية الإسلام وعموم رسالته زمانا ومكانا فلا تقف عند زمن معين ولا يحدها مكان خاص ولا تخاطب جنس دون جنس 0
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) 13 الحجرات 00 ويرى الباحث أن هذه الآية آية حاكمة في المفهوم الإسلامي للعالمية وهي عكس المفهوم الغربي للعولمة لما يلي :
1. اختلاف الناس و تعددهم في شعوب وقبائل سنة من سنن الله في الأرض 0
2. ورغم هذا الاختلاف فان من حكمة الله تعالي تعارف الناس 0
3. ولكن هذا التعارف والتعاون الدولي يجب أن يكون في إطار ضوابط وقيم منصوص عليها في الأديان السماوية والأعراف والقوانين الدولية وتتمثل في ( الندية والمساواة والعدل والاحترام المتبادل والمسئولية الدولية واحترام خصوصية الآخر وعدم التداخل في الشئون الداخلية له )
هذا المفهوم الإسلامي للعالمية يفتقده النظام الدولي الجديد وما تولد عن من ظواهر 0
ويقارن الدكتور السيد الشاهد بين مصطلحي العالمية والعولمة فيما يلي:
• ما يوصف بالعالمية لابد أن تكون طبيعته ونتائجه صالحة لان يستخدمها كل البشر أما العولمة فهي تدل علي فعل وليس صفة ويراد بها إخراج شئ عن طبيعته الإقليمية وفرضه على المجتمعات الأخرى وإن لم يتفق في طبيعته ونتائجه مع طبيعة وظروف المجتمعات الأخرى 0
• مصطلح العالمية يتضمن إلى جانب صلاحيته الطبيعية لكل البشر الاعتراف بخصوصية الآخر وضرورة آخذها في الاعتبار واحترامها بينما " العولمة " لا تعترف بالآخر بل وتنكر حقه في الاحتفاظ بخصوصياته الثقافية أو الاجتماعية 0
• العالمية لا يترتب عليها رد فعل مضاد من الآخر لأنها لا تفرض نفسها عليه كبديل يعتد به وتترك له الحرية في إن يأخذها بجملتها أو إن يأخذ منها ما يري فيه صلاحه وترك غير ذلك ولا تضمر العداء لهذا البديل 00 بينما تؤدي العولمة - حتما - إلى رد فعل مضاد يرفض القهر علي تبني مفاهيم غريبة عن طبيعة لم تولد في تربته ولا تتناسب مع روحه وتتحدد درجة قوة رد الفعل حسب قوة الضغط فتصل من مجرد الرفض السلبي إلى الرفض بالعنف والقوة ويترتب علي ذلك أيضا ما يعرف بالتطرف في الاتجاه الآخر والعنف في التعامل مع الغريب. كما قد يصل إلى درجة الإرهاب الذي لا يميز بين الحابل والنابل ، كما يحدث في بعض بلادنا الإسلامية مثل الجزائر 0
• وأخيرا فان عالمية أي مبدأ أو نظرية أو تصور تعرف وتنتشر بين المجتمعات عن طريق الكلمة المكتوبة أو الدعوة بالأساليب التقليدية مثل الأبحاث والمحاضرات والندوات وما شابه ذلك ، بينما تعتمد العولمة علي الضغط الاقتصادي والغزو الثقافي الذي قد يصل إلى الغزو العسكري تحت حجة تختلق لهذا الغرض 0
والعولمة عند الغربيين وخاصة العلمانيين تسقط الدين من حسابها جملة ولا تقيم له وزنا في كثير من صورها وتستهدف طرح الخلافات المذهبية والإبقاء علي العناصر المشتركة حتى يمكن جمع الناس كافة علي مذهب واحد تزول معه خلافاتهم الدينية أو المذهبية والعنصرية وتتخذ بهذا صورا عديدة – أبرزها الماسونية والشيوعية – وهي كلها علي اختلاف صورها دعوات هدامة إذ تحاول كل صورة منها أن تكون دينا أو مذهبا جديدا يجتمع عليه الناس 0
الاقتصاد والعولمة
يقول مبشرو العولمة إن الدنيا قد غدت على نحو مختلف مما سبق وأن التطورات العلمية والتكنولوجية جعلت العالم متشابكا أشد التشابك حتى غدا كالقرية الواحدة ولم يعد هناك معنى للوحدات الصغيرة والحدود القومية ويصف عادل حسين هذا المفهوم بأنه غير صحيح ومضلل لأنه قد حدث في السابق أنه مع ظهور الثورة الصناعية فإن الإنتاج قد صنع علاقات اقتصادية قوية أدت إلى تشابك الأمور 00 فبدلا من أن كانت كل دولة تصنع احتياجاتها الخاصة في السابق فان الصناعات الجديدة تخطت حدود الدول القومية 00 وعلي الرغم من كل التفاعلات وجدت الدولة السياسية التي تضبط الحركة وتطبق القانون 0
نحن العرب باعتبارنا مستوردين للعولمة فإن هذا يجعلنا فريسة للوقوع في براثن التهميش والتضحية بالسيادة الوطنية أمام التهديدات العولمية فقد شكل الوضع الجديد بفرض اتجاهات اقتصاد السوق الحر غير المدروس ومآزق فرض الإصلاحات الاقتصادية القاسية وأزمة المديونيات والقبول بأسعار النفط الرخيص خيوطا تتعاظم من خلالها تهميش اقتصاديات الدول العربية باعتبارها دولا يتضخم بها قطاع الخدمات دون الأسبقية لإنتاج المعرفة والتنافس الأفضل والحصول علي تمايز اقتصادي يرتقي إلى مصاف الاقتصاديات الصناعية والزراعية الجديدة ، وبالنتيجة قصور قدرة الاقتصاديات العربية علي التأقلم الإيجابي مع تعاظم التنافس في عولمة الاقتصاد العالمي.00 لقد أصبحت الأقطار العربية مستوردة للغذاء بصورة غير مسبوقة في التاريخ، فقد قدرت الواردات بنحو عشرين مليار دولار مع بداية التسعينات وضاقت الفجوة الغذائية بنحو16 مليار عام 1993، ومثلت الحبوب 28% من الواردات الرئيسية الزراعية للأقطار العربية 0
إن مفهوم الاقتصاد الغربي للعولمة مفهوم استعماري إذ يعني تحول العالم إلى منظومة من العلاقات الاقتصادية المتشابكة حيث تتبادل كل أجزاء العالم ( لا يقولون دول) الاعتماد علي بعضها البعض فيما يتعلق بالخامات ، السلع المصنعة ، الأسواق ، رؤوس الأموال والعمالة والخبرة الفنية 0
ويمكننا أن نزعم إذا كان للينين مقولة شهيرة ( الاستعمار هو قمة الرأسمالية ) فإنه يمكن القول بأن ( العولمة هي قمة الرأسمالية)
إن تتطور وتضخم الشركات عابرة الجنسية أدى إلى تعميق العولمة اقتصاديا وتعدد أنشطتها في الاستثمار والإنتاج والنقل والتوزيع والمضاربة بل وزيادة قدره هذه الشركات علي الاستفادة من فروق الأسعار ونسب الضرائب ومستوي الأجور لتركيز الإنتاج في المكان الأرخص لتسويقه في المكان الأغلى علي مستوي العالم أو الكرة الأرضية ( Globe ) 0
من الناحية الاقتصادية يقولون إنها شركات عابرة للقوميات ويقصدون بذلك الشركات الدولية النشاط التي لها فروع في اكثر من دولة 00 ويزعمون أن هذه الشركات لا هوية لها أو جنسية ولا تبحث عن شئ سوي الربح 00 وهذا قول خاطئ إلى حد كبير فهذه الشركات لها دور بالغ الضرر والخطر ويخضع ولاؤها في النهاية إلى الدولة التي تنتمي إليها مقرها الرئيسي ، والقول بأنها متعددة الجنسيات هو قول خادع 00 وهذه الشركات العملاقة التي تبلغ ثلاثمائة أو أربعمائة شركة تتجاوز ميزاتها ميزانية العديد من الدول النامية ولا يقتصر تأثيرها علي البعد الاقتصادي ولكنها تتحكم بدرجة كبيرة في البعد التكنولوجي أيضا 00 ولذلك فهم يعملون علي فرض قواعد هذه الشركات علي كل من يريد تحقيق التنمية 00 والذي يكذب حياد هذه الشركات أنها في أزمة الغرب مع إيران لم تقاطع هذه الشركات إيران بقرار منها ولكن لأن حكوماتها هي التي أمرتها بذلك ومن الكذب أن يقال أن تصدير الاستثمار والتكنولوجيا لا يخضع لغير الربح لان التعصب العنصري للرجل الأبيض له تأثيره الأكبر من ذلك فان كان الاستثمار في هولندا سينتج ربحا قدره 10% وفي آسيا 20% فإنهم يفضلون الاستثمار في هولندا عن آسيا بل إن منهم من يرفض الاستثمار في دول العالم الثالث (مثل بعض الدول الأفريقية) حتى لا يساعد علي تقدم هذه الدول 00 وكذلك الأمر بالنسبة لتصدير التكنولوجيا 00 والخطر في الأمر أن بعض الحكومات العربية قد خضعت تماما لبعض هذه الشركات وقدمت لها تيسيرات كبيرة رغم التحذيرات المستمرة من خطورتها وكل ما يقال عن أن هذه الشركات ستجلب الخير لنا كلام غير صحيح وكاذب 0
إن هناك الآن ما يقرب من 300 مليار دولار أموال هائمة عبر ( شبكة الإنترنت والفيزا كارد 000 الخ ) ولقد تورطت كوريا على سبيل المثال عام 1998 في ديون قصيرة الأجل وصلت إلى 110 مليار دولار وهذه الديون تزيد عن أصول المؤسسات الكورية وتزيد عن ثلاثة أضعاف الاحتياطات المالية الكورية 00 وكان من الممكن حل هذه المشكلة عبر الاقتصاد الكوري القومي أو إعادة الجدولة مع البنوك إلا أن النظام العالمي الجديد والمؤسسات العالمية الدولية التابعة له وجدتها فرصة سانحة لتطبيق وصفة صندوق النقد الانكماشية علي كوريا ( إعادة هيكلة الاقتصاد / مساواة وضع المستثمرين الأجانب مع الكورية / صدور قانون فتح البنوك والأسواق الداخلية أمام البنوك وشركات التأمين الأجنبية / إسقاط آية ضوابط علي الواردات / رفع يد الدولة تماما عن البنوك وعن البنك المركزي / تعديل قانون العمل بما يضمن إمكانية فصل العمال وإمكانية نقل نشاطهم إلى نشاط آخر أو إحالتهم إلى المعاش المبكر ) كل هذا كان له بالغ الأثر في ضرب الاقتصاد والكوري وحدوث الأزمة الاقتصادية في دول جنوب شرق أسيا ونظن أن هذا ليس ببعيد عما يحدث في كثير من دولنا العربية ولكن الأثر الذي لا يقل خطورة عن ذلك هو تغييب للدور الوطني للدولة وهذا لا يحدث في اكثر الدول ليبرالية 0
يشير كيشور محبوباني المندوب السامي لسنغافورة في الأمم المتحدة إلى أنه بالحساب البسيط تتضح حماقة الغرب فعلى حين يوجد في الغرب 800 مليون نسمة وتشكل الحضارات الأخرى 4.70 مليار نسمة ، وفي المجال القومي لا يقبل أي مجتمع غربي أن تسن 15 % من تعداده القوانين لنسبة 85 % المتبقية ، ولكن هذا ما يحاول الغرب أن يفعله عالميا 00 والأمر المأساوي أن الغرب يدير ظهره للعالم الثالث في حين يمكن للأخير أن يساعد الغرب للخروج من مشكلاته الاقتصادية فلقد زاد ناتج العالم النامي بالدولار عام 1992 أكثر مما حدث في أمريكا الشمالية وأوربا واليابان مجتمعة 00 وذهب ثلثا الزيادة الصادرات الأمريكية إلى الدول في العالم النامي 0

العولمة والهوية الثقافية
إن من أهم أثار العولمة ضرب الهوية الثقافية للأمة ولننظر إلى طرفي المعادلة : هم يملكون إعلاما بلا قيم ونحن نملك قيما بلا إعلام 00 فهل من الممكن أن نستخدم آليات العولمة المتقدمة في نشر رسالتنا علي العالم ؟
يحدد الدكتور حامد طاهر أهم خصائص ثقافة العولمة فيما يلي :
1- أنها ثقافة منفتحة علب العالم كله، وليست محصورة فقط في المجال المحلي 0
2- ثقافة متعددة الوسائل( مطبوع – مسموع – مرئي00 الخ) ولا يمكن الاقتصار علي إحداها 0
3- تتطلب متابعة يقظة وسريعة ومستوي معينا من الذكاء 0
4- يغلب عليها الطابع الكمي علي حساب الكيف والنوعية 0
5- تتميز بالإبهار في العرض والسيطرة الكاملة علي اهتمام المتلقي 0
6- تحتاج مهارة تكنولوجية للإفادة القصوى من وسائلها ومعطياتها 0
ومع ما نلاحظه في هذه الخصائص من بعض السلبيات، فان العولمة تتضمن بالتأكيد بعض الإيجابيات ( 27 ) التي يأتي في مقدمتها :
1- زيادة الوعي بالقضايا الإنسانية والتفاعل معها 0
2- تتطلب قدرا من التسامح مع وجهات النظر المخالفة 0
3- تساعد علي سهولة الاندماج أو علي الأقل سهولة التعامل مع المجتمعات الأخرى 0

إن ما يقال عن ثورة الاتصالات وتبادل المعلومات عن طريق الأقمار الصناعية وأطباق الاستقبال والإنترنت هو في الحقيقة ثورة رهيبة ولكن هل حدث بالفعل تبادل في المعلومـــات ؟ لو صدق هذا لكان ما يعرفه الإنسان في إنجلترا عن بلادنا هو بقدر ما نعرفه عن إنجلترا ولكن الذي حدث أننا أصبحنا نعرف عن أمريكا وإسرائيل وإنجلترا أكثر مما نعرف عن سوريا أو اليمن أو تونس أو أي من الدول الإسلامية الأخرى فالإعلام يحمل غسيلا للأدمغة ويسعون من خلاله لمحو تراثنا وكل يوم يفتتحون محطات جديدة للسيطرة الإعلامية الكاملة فهم يوجهون المعلومات ويشوهون التحليلات وينشرون الفجور ويسعون لطمس ديننا وهويتنا. واليهود يركزون تركيزا خاصا علي الإعلام والسينما ووسائل التثقيف 00 فهذا الإعلام العالمي الذي تمثله العولمة تحكمه أمريكا وإسرائيل في النهاية، وهو لا يجلب خيرا لنا وإنما دمارا لشعوبنا 0
تنميط العولمة ضد السنة الإلهية : ومن حيث المبدأ فإنه حين يقال أن العالم سيكون عالما واحدا تحت هيمنة دولة واحدة وأن ذلك سوف يشمل الجوانب الثقافية والحضارية فإننا ينبغي أن نرفض ذلك من منطلق إسلامي 00 فمن المنظور الإسلامي أن الله قد خلق البشر مختلفين ونحن نؤمن أن البشر لا يمكن أن يكونوا وحدة واحدة 0
فكما أن لكل شعب الحق في تقرير مصيره فلكل شعب الحق في الحفاظ على ثقافته وقد نجحت اليابان في الأخذ بأحدث ما أنتجه العصر وما زالت تحافظ على قيمها الخاصة وثقافتها 0

العولمة والقيم الأخلاقية
مما لاشك فيه أن النزعة النظرية والفكرية البحتة لقضية العولمة تتطلب نوازع ومبادئ وقيم أخلاقية سامية يترفع فيها الإنسان عن عصبيته وجاهليته حتى تعم فائدتها علي العالم أجمع، فلا يكمن خلف واجهتها البراقة نوازع إنسانية متدنية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ، حيث يجني قطوفها الغني ويلهث في كنفها الفقير، ويزداد القوي قوة ويتواصل الضعيف في ضعفه، مغيبة في طياتها توجهات اقتصادية وسياسية وعنصرية وطائفية ذات أهداف خاصة 0
وحقيقة الأمر أن الخوف من الاضطراب والتداخل والتهميش والتهويش لا ينال القيم الأخلاقية ذاتها ولكنه يكمن في التطبيق العلمي لها والتفاضل في الزيادة والنقصان أو الانحراف عنها مدفوعا ومؤيدا بوسائط العولمة المتجسدة في الفكر والأدب والفن والدعاية والإعلام وإبراز القيم الزائفة التي يسهل تطبيقا وتحوي في طياتها الخيرية المؤقتة السريعة التحقيق والمنال والتي هي عكس القيم الأخلاقية المعنوية الراسخة التي تجاهد النفس في تطبيقها لتجني خيرتها الدائمة بالمشقة والمعاناة 0
يشير كيشور محبوباني إلى قضية القيم بقوله : إن العالم يقبل اليوم التحديث كقضية حيوية ، ولكنه يقاوم أمراض الغربة ، فلقد زاد عدد سكان الولايات المتحدة منذ عام 1960 وحتى اليوم بنسبة 41 % وارتفعت نسبة الجريمة في ذات الفترة إلى 560 % وزادت نسبة الطلاق إلى 300 % ، فهل يجب على العالم أن ينقل هذا الواقع الاجتماعي إليه ؟! 00 وهل من الضروري أن ينقل عن الغرب الجيد والسيئ معا ويتغافل عن العواقب الاجتماعية لهــذا النقل ؟! 0
ولما كان الإيمان هو السبب الفاعل في تأسيس الحضارات وازدهارها فان غياب الإيمان أو محاربته ومصادمته هو أيضا السبب في انهيار الحضارات وانحطاطها ذلك أن غياب الإيمان والاعتقاد الصحيح يترتب عليه سيادة قيم ومبادئ اجتماعية وأخلاقية تجسد الجوانب الدنيا في الطبيعة البشرية فيسود منطق الأثرة والأنانية بدلا من الإيثار والمحبة ، ويحل الظلم ويغيب العدل ، ويرتفع كل معني أخلاقي نبيل ليسود منطق الغاب وسيادة الأقوى ، تأمل حال مجتمع يعيش أفراده تحت سيادة هذه المبادئ اللاأخلاقية ، ثم ماذا يكون حال العلاقات بين الدول إذا أخذوا بهذا المنطق ؟ ، الدول الضعيفة تكتوي بنار هذا المنطق المعكوس في تعامل الدول الكبرى معها حيث سطت هذه الدول علي خيرات العالم الثالث سلبا ونهبا وإذا وجدت من يقاومها فان القتل والتشريد وسيلته الخلاص منه 0

العولمة والأسرة
وفي ظل ثورة الاتصالات والإعلام المبهر وألعاب الكمبيوتر والإنترنت تفقد الأسرة علاقات الصداقة التي كانت تربطها 0
كما أن العولمة تمتهن من قيمة المرأة وتتاجر بجسدها في الإعلانات والمسلسلات وتتعامل معها كسلعة مما ينعكس بالسلب على الأسرة في النواحي المادية والاجتماعية 0
ولقد أضحي "الإيدز" سمة من سمات عصر العولمة الذي يتحدثون عنه وإذا كانت المجتمعات الغربية قد نجحت في خفض معدلات انتشاره فإن المجتمعات المختلفة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فشلت في ذلك باستثناء الدول المسلمة التي تحرم الزنا واللواط 00 فإذا نحن سرنا في قبول العولمة إلى مرحلة إباحة الزنا واللواط فعلينا أن نتقبل النتائج اللازمة عن ذلك – ولا أذكر "الإيدز" فقط 00 بل ملايين المواليد من سفاح ، وهم الذين يشكلون جيوش المجرمين في الغرب في شكل عصابات المافيا وغيرها ولابد أن نتوقع انهيار الأسرة وظهور الأســــرة " المثلية " التي تجسد الشذوذ الجنسي بالإضافة إلى حزمة كبيرة من الأمراض والأوبئة العقلية والنفسية والاجتماعية 0
كما أن العولمة وما يرتبط بها من نمط استهلاكي وتقنيات إعلامية متقدمة في الترويج لهذا النمط تؤدي إلى ارتباط الطفل بنسق معيشي وتطلعات معيشية مع وضع أسرته 00 الأمر الذي يصنع التناقض بينه وبين واقعه ولا يختلف الوضع كثيرا بالنسبة للمرأة 00 وإضافة إلى ذلك فإن ما تروجه الإعلانات عن طريق الجوائز ينمي من قيم الكسب السهل ونبذ قيمة العمل خاصة عند الأطفال 0
من ناحية أخرى فإن ثقافة العولمة تعتمد بالأساس على اللغة الإنجليزية 00 الأمر الذي يعمل تدريجيا على القضاء على اللغة العربية وهي من أهم العناصر الحضارية التي يجب أن يتشكل وعي الطفل من خلالها 00 ومن أهم سلبيات العولمة انتشار العنف بين الأطفال نتيجة الترويج الإعلامي له بأنه الوسيلة المثلى لحل الكثير من المشاكل الحياتية 0

استراتيجية المواجهة
إن العولمة ليست قضاء محتوما لافكاك منه بل يمكن لشعوب العالم أن تستثمر بعض الإجراءات العولمية لصالحها 0
على المستوى السياسي :
إننا في عالم اليوم ينبغي أن نحرص علي ضرورة تكتل المسلمين 00 إننا ينبغي أن نكون الأتقى و الأرسخ ونحن إذا تخلفنا فلن ينقذنا غيرنا وينبغي أن نقيم كتلتننا ونواجهه الآخرين بها وبغير هذا التكتل لا نكون قد أقمنا الوحدة التي أمرنا الله بها وحملنا الأمانة التي حملها الله إيانــا 00 الهدف الأساسي من العولمة هو أن يسيطر الغرب علي كل المستضعفين في الأرض بشكل عام وعلي أمة الإسلام بوجه خاص وإذا كان هذا الهدف هدفا قديما فإنهم يعملون الآن علي الاستفادة من التطورات العالمية التي حدثت من أجل تحقيقه ولكن التطورات المتوالية لم تساعدهم كثيرا في ذلك 00 فقد كان من المتصور أن تلعب أمريكا دور الحكومة العالمية، فثبت أن بالعالم قوي كثيرة 00 كتلا لا يمكن إلغاؤها مثل الصين واليابان ودول جنوب شرق أسيا 00 علينا أن نحارب أضاليلهم وقبضتهم التي يحاولون بها التحكم فينا، وإذا كتب علينا كمسلمين أن نقاتل لانتزاع حقنا يجب أن يكون ذلك 00 فنحن كمسلمين في خط الصدام الأول للدفاع عن كلمة الله وإقرار العدل والعمل علي أن تسود روح الأخوة 00 ونرجو أن يكون المسلمون قوة مع القوي الأخرى وهذا بإذن الله ممكن، وقد وعدنا الله النصر وإظهار دينه والمؤشرات تؤكد أن وعد الله بنصر المسلمين يبدو في الأفق وبشائر النصر تهل بإذن الله 0
ويرى الدكتور محمد الشرقاوي تأسيسا علي منطق التحدي والاستجابة أن تداعيات العولمة ستفرض علي كثير من حكومات العالم أن تلجأ إلى شعوبها وتتحصن بها كما أنها ستفرض عليها تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، وستشجعها علي مستوي نطاق الشورى والديمقراطية والعدالة والمساواة ومحاربة الفساد وسوء استخدام السلطات 00 كما أن تجارب البشرية تثبت استحالة الهيمنة علي العالم بواسطة قوة واحدة ولقد سقطت الإمبراطورية الرومانية من قبل وسقط الاستعمار وسقط الاتحاد السوفيتي وكل أولئك اللذين بشروا بتوحيد العالم وتنميطه والهيمنة عليه ، لأن قوي التنوع أرجح من قوي العولمة والهيمنة 0
نحن بحاجة إلى صياغة مشروع عربي لمواجهة برامج العولمة، بعد أن أصبحت ضرورة ملحة تفرضها المتطلبات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية للأقطار العربية، وهذا ما يستدعي قيام حوار ديمقراطي داخل أقطارنا العربية لتعزيز قدراتنا الذاتية وتمكين شعوب المنطقة من إدارة وتنظيم شئونها الداخلية والاقتصادية بشكل حضاري مدروس، ونحن بحاجة إلى الآخذ بمبدأ التطبيع العربي- والميل نحو ديمقراطية الحوار العربي 00 وبنفس الوقت فحن لا نستطيع أن نغلق أبوابنا ونوافذنا أمام تقنيات الاتصال والعولمة، فمجتمعنا لابد أن يتغير وعلينا أن نصبح مواطنين عالميين فخورين بثقافتنا ومجتمعنا 0

على المستوى الاقتصادي :
الاستراتيجية البديلة هي استراتيجية الاعتماد على الذات : ( القوة البشرية العربية / الموارد المحلية العربية / اختيار التكنولوجيا المناسبة / تحقيق الضمانات اللازمة لاستقرار واستمرار النشاط الخاص الوطني / التصدي للفساد بشتى صوره / تشجيع المدخرات العربية في الخارج علي العودة / فتح مجالات جديدة للصناعات الصغيرة / خلق المجموعات الاقتصادية المتكاملة نموذج مصر وليبيا والسودان كنواة للتكامل العربي ثم الإسلامي / إعادة بعث الروح في مجموعة الثمانية الإسلامية والتي بدأها نجم الدين أربيكان ) 0
كما أن المنافسة الضارية بين أقطاب العولمة التي تسيرها قوانين الربح والرأسمالية المتوحشة والفردية الذاتية بكل أنانيتها وأثرتها وقد تفضي إلى تناطح تلك القوي وتشاحنها 0

على المستوى القيمي :
سيكون هناك دائما حزب الله وحزب الشيطان وسيبقي دائما الحزب الذي يسعى دائما لتحقيق شرع الله فقد خلقنا لنكون خير أمة أخرجت للناس ولهذا فإذا كان ما يحمله الغرب الآن من حضارة وما يبثه من ثقافة هو حضارة وثقافة الشيطان التي تحض علي الكفر فإننا سنظل معتصمين بكل قيمنا التي يعتبرونها تخلفا لان تقدم الأمم الحقيقي ينبغي أن يقاس بمدي تقربها إلى الله سبحانه وتعالي 0
على مستوى الهوية الثقافية :
لكل أمة ثلاث خصوصيات : خصوصية الزمان ، خصوصية المكان ، والخصوصية الحضارية وإذا كانت العولمة تستطيع أن تؤثر في خصوصية المكان والزمان بثورة الاتصالات 00 إلا أنها لا يمكنها التأثير في الخصوصية الحضارية للشعوب والتي قد تمتد إلى مئات وآلاف السنين كما في عالمنا العربي والإسلامي 00 إن العولمة تسعى لمحو ذاكرة الأمة كما يحدث الآن لمحو الذاكرة العربية والإسلامية بما يسمى بالتطبيع مع الكيان الصهيوني 00 إلا أن العولمة ستدفع الشعوب لكي تتحصن بخصوصياتها وأصالتها الدينية والثقافية والحضارية حتى لا تذوب أو تغرق في طوفان العولمة والأمركة 0
ومهما يكن من أمر العولمة ومخاطرها الجسيمة فإنها في محاولتها تنميط العالم تبدو متصادمة مع سنن الله في قيام المجتمع الإنساني علي التنوع والتعدد وليس علي التوحيد والتنميط كما أن واقع العالم منذ البدء كان كذلك ولا يزال 00 وإذا كانت العولمة تمثل دورة أو موجة من موجات الهيمنة فان تمسكنا بهويتنا الدينية والثقافية يشكل الأساس الأمتن في حفظ الذات وحمايتها من مخاطر العولمة 00 لكننا نري في نفس الوقت أن تأكيد هويتنا الدينية لن يعطي ثمرته المرجوة إلا إذا جددنا ديننا وخلصناه مما ليس منه 00 لابد أن نفرق للناس بين أصول العقائد وفروعها وأن فروع العقائد محل اجتهاد يخطئ فيها العلماء ويصيبون ولا عصمة لاجتهاد ومجتهد كما أن هذه الاجتهادات في المساحات الظنية تتغير بتغير الزمان والمكان 00 وعلينا أن نجدد ثقافتنا وأن نحكم العقل الناقد في كل ما نأخذ وما ندع مع انفتاح متوازن علي الشرق والغرب 00 علي الماضي والحاضر . وبذلك نستقذ أنفسنا من مخاطر العولمة أو تكريس الهيمنة 0

0 التعليقات:

إرسال تعليق

د. مجدي قرقر © 2008 | تصميم وتطوير حسن