
ما من شك أن مصر قد مرت بأزمة حادة ورياح سياسية عاصفة في الأسابيع الماضية
كادت أن تبتعد بها بعيدا بعيدا عن بر الأمان، ومن ينكر ذلك يدفن رأسه في الرمال.
دعونا ننظر للأمر بمنظور استراتيجي: نضع الغاية الاستراتيجية - نصيغ القيم الحاكمة
- نقيم الوضع الراهن - نحدد الفجوة - نضع آليات وأساليب تجاوز الفجوة - نقيم
السيناريوهات المقترحة والمحتملة - ندرس المخاطر المحتملة وأساليب مواجهتها.
*****
الغاية الاستراتيجية
تجاوز حالة الانفلات الأمني الذي شهدته مصر منذ ثورة 25 يناير وتحقيق
الاستقرار اللازم للتنمية لتجاوز حالة الخراب التي أوصلنا إليها نظام مبارك
البائد.
*****
القيم الحاكمة
في هذا الإطار يحكمنا مجموعة من المحددات والقيم الحاكمة:
1) احترام إرادة الشعب التي عبر عنها من خلال ثورته
المباركة ومن خلال استفتاء 19 مارس 2011 وانتخاب المجالس التشريعية ورئيس
الجمهورية.
2) احترام شرعية رئيس الجمهورية والحرص على هيبته وهيبة
الدولة.
3) سيادة الدستور والقانون.
4) احترام حق التظاهر السلمي ورفض وإدانة البلطجة وتخريب
المنشآت.
5) احترام المعارضة ومخالفة الرأي وإدانة وتجريم التآمر
الذي يستهدف الشرعية ومقدرات شعب مصر العظيم.
6) احترام التعددية السياسية والإقرار بأن مصر وطن لجميع
أبنائها.
7) احترام الأغلبية للأقلية وأخذ رأيها بعين الاعتبار.
8) احترام الأقلية لرأي الأغلبية طالما عبرت عن رأيها
*****
تقييم الوضع الراهن في بيئتيه الداخلية والخارجية
1) تزايد حالة الاستقطاب الإسلامي العلماني والتي نمت
جذورها بشكل واضح مع الصحوة الإسلامية في مصر في سبعينات القرن الماضي.
2) احتقان الأوضاع في ظل حالة الانفلات الأمني منذ ثورة 25
يناير 2011 وحتى تاريخه. التظاهرات بميدان التحرير وفي محيط المحكمة الدستورية
ووزارة الداخلية وقصر الاتحادية ورابعة العدوية ومدينة الانتاج الإعلامي - وكل هذا
في وقت واحد - إضافة إلى حرق العشرات من مقرات حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان
المسلمين وتقتيل العشرات وإصابة المئات.
3) تأخر الحرس الجمهوري في تأمين قصر الرئاسة لأسباب لا
نعرفها - ربما رغبة في عدم الاحتكاك بالجماهير - وغياب الشرطة في الأحداث الأخيرة
مما دفع بكوادر جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة بالتوجه لقصر الاتحادية لتحرير
محيطه بعد إعلان المعارضين والبلطجية والفلول عن نيتهم في اقتحام القصر وحدوث ست
حالات وفاة ومئات الإصابات.
4) أزمة الثقة المتبادلة عند جميع الأطراف.
5) انسداد قنوات الحوار بين الفصائل السياسية المختلفة.
6) اللجوء إلى سياسة لي الأذرع وفرض سياسة الأمر الواقع من
الجميع.
7) ضعف الكفاءة السياسية للنخبة داخل نظام الحكم وفي
المعارضة.
8) تقدير القوى العلمانية الخاطئ لقوتها وعدم ادراكهم
لوزنهم الحقيقي في الشارع السياسي.
9) استخدام بعض القوى المعارضة لجهاز البلطجة الذي أسسه
حبيب العادلي لحماية النظام البائد.
10)
تحالف فلول النظام السابق مع بعض القوى المعارضة والذين لا يجمعهم سوى كره
التيار الإسلامي.
11)
استقواء بعض القوى المعارضة بالخارج ومطالبتهم للقوات المسلحة بالتدخل بما
يضع المئات من علامات الاستفهام حول قيم الوطنية والديمقراطية التي طالما تشدقوا
بها، وبما يضعهم في خندق العمالة والاستبداد والتآمر.
12)
القراءة الخاطئة لإعلان 22 نوفمبر، لا لشيء إلا المكايدة. ولولا تلك
القراءة الخاطئة لكان من الممكن أن يستثمر الجميع وخاصة العلمانيين مدة الشهرين التي
أعطاها د مرسي للجمعية التأسيسية للتوافق حول الدستور، فلو تفهم الجميع حقيقة الإعلان
الدستوري لانتهزوا مهلة الشهرين للتوافق، ليحتفل كل المصريين بطرح دستور أفضل للاستفتاء.
13)
تهديد بعض القوى المعارضة بعدم السماح للاستفتاء على الدستور بأن يتم بما
يوحي بأنهم على استعداد لاستعمال القوة لتحقيق أغراضهم ومؤمراتهم.
14)
عدم إظهار القوى المعارضة لأسباب معارضتها الحقيقية والمتمثلة في رفضهم
لنتائج الديمقراطية ورغبتهم في إسقاط هيبة الدولة وعدم تقبلهم لرئاسة الدكتور محمد
مرسي ورغبتهم واشتياقهم لكرسي الرئاسة وتشويه الرموز الإسلامية بغرض تشويه الإسلام
ذاته.
15)
تآمر الحلف الصهيوني الأمريكي على مصر ودعوة السفيرة الأمريكية لمن يسموا
بقيادات المعارضة للتشاور وعودة السفير الصهيوني لمصر بعد تصاعد التظاهرات ليكون
على مقربة منها. حتى أنني وجهت نصيحة للثوار الحقيقيين
بألا يتورطوا مع المفضوحين الذين لم يستحوا في ذكر ما دار بينهم وبين السفيرة
الأمريكية.
16)
تعثر مسودة دستور مصر الثورة نتيجة لكيد العلمانيين المتكرر ونتيجة لضيق
صدر الإسلاميين. ففي الوقت الذي وحدت فيه ثورة 25 يناير المباركة شعب مصر بكافة
قواه وطوائفه وأعماره وفئاته جاءت مسودة الدستور لتفرق بينهم عندما ظهر الصراع حول
الهوية على السطح.
17)
عدم إدراك النخبة بأن ترف الحوار والجدل حول الدستور عندهم فقط في الوقت
الذي لا يهتم فيه الشعب إلا بلقمة عيشه.
18)
المغامرة بالاستفتاء على الدستور قبل التوافق مما قد يعرض مصر للمخاطرة حال
رفضه بما يعيدها عاما إلى الوراء على الأقل.
19)
عدم اعتراف القيادات الإسلامية بوجود أزمة.
20)
استخدام أسلوب المفاجئة - المباغتة - في قرارات السيد الرئيس. ورغم نجاح
هذا الأسلوب في إقالة المشير طنطاوي والفريق سامي عنان، إلا أن هذا الأسلوب فشل في
قرار عودة مجلس الشعب والإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 بما يستوجب من مستشاري
الرئيس إعادة النظر في هذا المنهج. وزاد من ذلك حالة التربص التي تستهدف الرئيس
مرسي من معارضيه. وأزعم أن الرئيس الدكتور محمد مرسي لو مهد عند الشعب لهذا القرار
وذلك الإعلان لاختلف الوضع كثيرا عما هو عليه الآن. ومن هنا فإن خطاب السيد الرئيس
يوم الخميس الماضي 6 ديسمبر جاء متأخرا أسبوعين، لأن المبررات يجب أن تسبق
الإجراءات بما يحقق الوضوح والشفافية. لو عرض الرئيس على الشعب مبررات الإعلان الدستوري
قبل إصداره لكان من الممكن تعاطف كم أكبر من الشعب معه بفهم مبرراته مما يحجم من ردود
الفعل الغاضبة التي عانينا منها طوال الأسابيع الماضية رغم أن هذه المبررات لم تكن
كافية لأن تحقيقات نيابة لم تعلن عنها والسيد الرئيس لم يكن في حل من ذكرها.
21)
استقالة بعض مستشاري رئيس الجمهورية رغم تأثيرها الضعيف لأن المستشارين
ليسوا من ضمن الفريق الرئاسي الذي يقتصر على شخص الرئيس ونائبه ومساعديه وكبار
موظفيه.
*****
تحديد الفجوة
مصر الآن لديها رئيس شرعي منتخب، والمجلس التشريعي الرئيسي تم حله بقرار من
العسكر استنادا إلى حكم جائر تغولت فيه المحكمة الدستورية على السلطة التشريعية
والمجلس التشريعي الثاني مهدد بالحل والجمعية التأسيسية نجت ونجت معها مسودة
الدستور بأعجوبة بفضل من الله في ليلتها الأخيرة، أي أن مصر ليس لديها أية مؤسسة
شرعية باستثناء مؤسسة الرئاسة. وإعلان دستوري تلمظ العلمانيون له قبل أن يقرءوه،
ومسودة دستور عليها ملاحظات سينتج عنها دستور يسهل تعديله. ومصر لديها إعلام مازال
الكثير منه مواليا للنظام البائد وجهاز شرطة لم يستكمل تطهيره. عجز في الموازنة
وتضخم في الأسعار وشبح البطالة يهدد الشباب. وفي الإطار السابق نجد أن السيد رئيس
الجمهورية يحمل عبئا تنوء الجبال بحمله
*****
آليات وأساليب وسياسات واستراتيجيات تجاوز الفجوة
ووفقا للفجوة السابقة يلزم:
1) الاستفتاء على مسودة الدستور ليكون لدينا دستورا حال
موافقة الشعب عليه.
2) استكمال المؤسسات التشريعية بإعادة انتخاب مجلسي النواب
والشورى بعد أن تآمر عليهما المجلس العسكري السابق والمحكمة الدستورية.
3) إعادة هيكلة إعلام الدولة.
4) إعادة هيكلة وتطهير جهاز الشرطة.
5) الانطلاق في خطط التنمية الحقيقية اللازمة للتنقيب عن
خيرات مصر وتوفير فرص العمل للشباب.
هل يمكن في ظل الوضع الراهن الذي تناولناه أن نحقق السياسات والاستراتيجيات
اللازمة لتجاوز الفجوة والوصول إلى الغاية التي استهدفناها في مقدمة المقال؟
*****
السيناريوهات المقترحة لتجاوز الأزمة
ولأن الأزمة أزمة حقيقية تبارى المخلصون لطرح سيناريوهات للخروج من الأزمة
وتكاثرت عشرات المبادرات علينا وكان من أهمها مبادرة السيد نائب رئيس الجمهورية
المستشار محمود مكي.
ويوم السبت الماضي كانت دعوة الرئيس الدكتور محمد مرسي للقوى السياسية
للحوار لتجاوز الأزمة والذي حضره 54 شخصية من الشخصيات العامة والسياسيين
والقانونيين. وحضر الرئيس الجلسة الافتتاحية التي استمرت لدقائق اعتذر فيها عن عدم
حضوره للحوار حتى لا يمارس أي ضغط أدبي على مسار الحوار ووعد بالتزانه بما ينتهي
إليه الحوار.
تجاوز الأزمة يلزمنا بالتحرك في مسارين: مسار عاجل لإطفاء الحريق ومسار
عاجل آجل نسبيا لأيام مقارنا بالمسار الأول لاستكمال الاستراتيجيات السابقة للوصول
بمصر لبر الآمان.
وفي مسار إطفاء الحريق تم التأكيد على الكثير من المحددات والقيم الحاكمة التي استهللنا بها المقال وضرورة الحزم في مواجهة البلطجة وتأمين المنشآت الحيوية وبما لا يتعارض
مع حق التظاهر السلمي.
وفي المسار الثاني كانت هناك نقطتين قيد البحث: قضية
الدستور وتوقيت الاستفتاء عليه وقضية الإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر
*****
قضية الدستور وتوقيت الاستفتاء عليه
في قضية الدستور تباينت الآراء في الاجتماع:
1) اقترح البعض العودة لدستور 1971 بعد إلغاء
تعديلات مبارك التي أدخلها عليه وإضافة المواد التي تم تعديلها في استفتاء مارس
2011 لحين تشكيل جمعية تأسيسية جديدة وإعداد مسودة دستور جديدة ولم يحظى الاقتراح
بالقبول.
2) اقترح البعض اعتبار مسودة الدستور التي
أنجزتها الجمعية التأسيسية كإعلان دستوري يصدره السيد الرئيس نعمل به لحين تشكيل
جمعية تأسيسية جديدة وإعداد مسودة دستور جديدة ولم يحظى الاقتراح بالقبول.
3) اقترح البعض تشكيل لجنة صغيرة مابين
العشرين والثلاثين تضم بعض الفقهاء الدستوريين وممثلين عن القوى المعارضة وعدد
مساوي من أعضاء الجمعية التأسيسية التي أنهت أعمالها على أن تناقش المواد الخلافية
في المسودة الحالية وما تنتهي إليه تدفع به للجمعية التأسيسية لتنتج مسودة دستور
معدلة في خلال مدة لا تتجاوز أسابيع يدعو بعدها السيد الرئيس الشعب للاستفتاء على
هذه المسودة الجديدة.
وتحفظ السيد نائب الرئيس على أي تأجيل لموعد التصويت على
الدستور عن 15 ديسمبر الحالي لأن أي تأجيل عن هذا الموعد يخالف استفتاء 19 مارس
2011 كما أنه لا يجوز إصدار إعلان دستوري بموعد جديد لأن الإعلانات الدستورية لا
تكون دستورية إذا خالفت الاستفتاء الشعبي وإذا تم التأجيل يلزم الاستفتاء على
الموعد الجديد وهو إجراء غير عملي.
4) ويمكن أن يكون المخرج من ذلك رفض المسودة
وإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية لإنتاج مسودة جديد مع الاستفادة بالمسودة الحالية
وهو ما يعطل الاستفتاء على الدستور في ظل هذا الانفلات الأمني ويعيد إشكالية طريقة
تشكيل الجمعية التأسيسية التي تسببت في الكثير من الأزمات السابقة.
5) ومن هنا كان المقترح الأخير للسيد نائب الرئيس
بإجراء الاستفتاء في موعده على الدستور ويتم على التوازي مواصلة الحوار حول المواد
المختلف عليها وتحرر بها وثيقة بعد الاتفاق على النص النهائي لهذه المواد يوقع
عليها من السيد الرئيس ومن القوى المشاركة على أن يتم تعديل الدستور حال الموافقة
عليها مع أول اجتماع لمجلس النواب الجديد خاصة وأن الدستور الجديد وضع آلية سهلة لتعديله.
وإزاء هذه الرؤية القانونية التي لا تتيح مجالا كبيرا للحركة تم التوافق على هذا
الاقتراح.
*****
قضية الإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر
وكانت المناقشة الأهم عن كيفية نزع فتيل الفتنة التي نتجت عن الاعلان
الدستورى الصادر في 22 نوفمبر 2012 ، ولأن النوايا كانت صادقة فقد يسر الله
للمجتمعين فرصة التوافق بإصدار إعلان دستوري جديد بديلا عن الإعلان السابق مع
إقرار كل ما ترتب عليه من آثار ومنها عودة النائب العام السابق للقضاء بعد انتهاء
مدته بموجب الإعلان الدستوري السابق. وفي نفس الوقت التأكيد على ما جاء بالإعلان
المستبدل من إعادة محاكمة من شرع أو قتل أو أصاب ثوار 25 يناير وما ارتبط بها من
أحداث حال ظهور أدلة جديدة. وكذا آلية تشكيل جمعية تأسيسية جديدة حال رفض الشعب
لمسودة الدستور المطروحة عليه للتصويت. ثم أن كل الإعلانات الدستورية لا تقبل
الطعن عليها.
ولقد استجاب الإعلان الدستوري البديل لرغبات القوى السياسية بإلغاء حصانة
قرارات السيد الرئيس وإلغاء حق الرئيس في اتخاذ إجراءات استثنائية حال وجود خطر
يهدد البلاد.
إن الإعلان الدستوري البديل يساعد مصر على استكمال مؤسساتها التشريعية ويئد
الفتنـة التى حدثت عقب الاعلان الدستوري السابق وينهى حالة الانقسام ويزيل المخاوف
التي سببها الإعلان السابق ويقضي على مخاوف بعض فئات وفصائل المجتمع المصري وبصفة
خاصة القضاء
ترى هل يصل الإعلان الدستوري البديل بمصر لبر الأمان؟ أم أننا مازلنا بحاجة
لمزيد من الإجراءات؟ ولو أطفأنا النار فهل ستنطفئ أم يظل هناك من يؤججها تحت
الرماد؟
*****
رحم الله عمار الشريعي رحمة واسعة وغفر له ذنبه. كنت أحب
فنه الراقي غير المسف ولسانه العف وروحة المصرية المرحة ووطنيته الخالصة ومواجهته للطاغية
مبارك
0 التعليقات:
إرسال تعليق